فصل: تفسير الآية رقم (17):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (17):

{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17)}
{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بئاياته} استفهام انكاري معناه النفي أي لا أحد أظلم من ذلك، ونفى الأظلمية كما هو المشهور كناية عن نفس المساواة فالمراد أنه أظلم من كل ظالم وقد مر تحقيق ذلك.
والآية مرتبطة بما قبلها على أن المقصود منها تفاديه صلى الله عليه وسلم مما لوحوا به من نسبة الافتراء على الله سبحانه إليه عليه الصلاة والسلام وحاشاه وتظليم للمشركين بتكذيبهم للقرآن وكفرهم به، وزيادة {كَذِبًا} مع أن الافتراء لا يكون إلا كذلك للإيذان بأن ما لوحوا به ضمنًا وحملوه عليه الصلاة والسلام عليه صريحًا مع كونه افتراء على الله سبحانه كذب في نفسه فرب افتراء يكون كذبه في الإسناد فقط كما إذا أسندت ذنب زيد إلى عمرو وهذا للمبالغة منه صلى الله عليه وسلم في التفادي مما ذكر، والفاء لترتيب الكلام على ما سبق من بيان كون القرآن شيئته تعالى وأمره أي وإذا كان الأمر كذلك فمن افترى عليه سبحانه بأن يخلق كلامًا فيقول: هذا من عند الله تعالى أو يبدل بعض آياته ببعض كما تجوزون ذلك في شأني، وكذلك من كذب بآياته جل شأنه كما تفعلونه أنتم أظلم من كل ظالم، وقيل: المقصود من الآية تظليم المشركين بافترائهم على الله تعالى في قولهم: إنه تعالى عما يقولون ذو شريك وذو ولد وتكذيبهم بآياته سبحانه، وهي مرتبطة أما بما قلبها أيضًا على معنى أني لم أفتر على الله تعالى ولم أكذب عليه وقد قام الدليل على ذلك وأنتم قد فعلتم ذلك حيث زعمتم أن لله تعالى شريكًا وان له ولدا وكذبتم نبيه صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عنده سبحانه وأما بقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا القرون مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ} [يونس: 13] إلخ على أن يكون قوله تعالى: {ثُمَّ جعلناكم خلائف} [يونس: 14] وقوله سبحانه: {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا بَيّنَاتٍ} [يونس: 15] إلى هنا اعلامًا بأن المشركين الذين بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم واستنوا بسنن من قبلهم في تكذيب آيات الله تعالى والرسل عليهم الصلاة والسلام ويكون هذا عودا إلى الأول بعد الفراغ من قصة المشركين، وقيل: وجه تعلقها بما تقدم أنهم إنما سألوه صلى الله عليه وسلم تبديل القرآن لما فيه من ذم آلهتهم الذين افتروا في جعلها آلهة، وقيل: إن الآية توطئة لما بعدها ولا يخفى أن الأول هو الأنسب بالمقام وأوفق بالفاء وأبعد عن التكلف وأقرب انسياقًا إلى الذهن السليم {أَنَّهُ} أي الشأن {لاَ يُفْلِحُ المجرمون} أي لا ينجون من محذور ولا يفوزون طلوب، والمراد جنس المجرمين فيندرج فيه المفتري والمكذب اندراجًا أوليًا، ولا يخفى ما في اختيار ضمير الشأن من الاعتناء بشأن ما يذكر بعده من أول الأمر.

.تفسير الآية رقم (18):

{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بما لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)}
{وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ} حكاية لجناية أخرى لهم وهي عطف على قوله سبحانه: {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ} [يونس: 15] الآية عطف قصة على قصة، و{مِن دُونِ} في موضع الحال من فاعل {يَعْبُدُونَ} أي متجاوزين الله تعالى إما عنى ترك عبادته سبحانه بالكلية لأنها لا تصح ولا تقع عبادة مع الشركة أو عنى عدم الاكتفاء بها وجعلها قريبًا لعبادة غيره سبحانه كما اختاره البعض، و{مَا} إما موصولة أو موصوفة، والمراد بها الأصنام، ومعنى كونها لا تضر ولا تنفع أنها لا تقدر على ذلك لأنها جمادات، والمقصود من هذا الوصف نفي صحة معبوديتها لأن من شأن المعبود القدرة على ما ذكر، وقيل: المعنى لا تضرهم إن تركوا عبادتها ولا تنفعهم إن عبدوها والمقصود أيضًا نفي صحة معبوديتها لأن من شأن المعبود أن يثبت عابده ويعاقب من لم يعبده، والفرق بين التفسيرين على ما قاله القطب اطلاق النفع والضر في الأول والتقييد بالعبادة وتركها في الثاني، وقيل: المقصود على الأول من الموصول الأصنام بعينها وعلى الثاني فاقد أوصاف المعبودية، ويجوز أن يدخل فيه غير الأصنام من الملائكة والمسيح عليهم السلام، والظاهر أن المراد هنا الأصنام لأن العرب إنما كانوا يعبدونها وكان أهل الطائف يعبدون اللات وأهل مكة العزى ومناة وهبل وأسافا ونائلة {وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شفعاؤنا عِندَ الله} أخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: كان النضر بن الحرث يقول: إذا كان يوم القيامة شفعت لي اللات والعزى وفيه نزلت الآية.
والظاهر أن سائر المشركين كانوا يقولون هذا القول، ولعل ذلك منهم على سبيل الفرض والتقدير أي إن كان بعث كما زعمتم فهؤلاء يشفعون لنا، فلا يقال: إن المتبادر من الشفاعة عند الله تعالى أنه في الآخرة وهو مستلزم للبعث وهم ينكرونه كما يدل عليه قوله تعالى: {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ} [النحل: 38] وكذا ما تقدم آنفًا من قوله سبحانه: {الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا} [يونس: 15] فيلزم المنافاة بين مفاهيم الآيات، وكأنه لذلك قال الحسن عليه الرحمة: إنهم أرادوا من هذه الشفاعة الشفاعة في الدنيا لإصلاح المعاش، وحينئذٍ لا منافاة والجمهور على الأول، ومن سبر حال القوم رآهم مترددين ولذلك اختلفت كلماتهم، ونسبة الشفاعة للأصنام قيل باعتبار السببية وذلك لأنهم كما هو المشهور وضعوها على صور رجال صالحين ذوي خطر عندهم وزعموا أنهم متى اشتغلوا بعبادتها فإن أولئك الرجال يشفعون لهم، وقيل: إنهم كانوا يعتقدون أن المتولي لكل إقليم روح معين من أرواح الأفلام فعينوا لذلك الروح صنمًا من الأصنام واشتغلوا بعبادتها قصدًا إلى عبادة الكواكب وقيل: غير ذلك، والحق أن من الأصنام ما وضع على الوجه الأول ومنها ما وضع لكونها كالهياكل للروحانيات {قُلْ} تبكيتًا لهم {أَتُنَبّئُونَ الله بما لاَ يَعْلَمُ} أي أتخبرونه سبحانه بما لا وجود له ولا تحقق أصلًا وهو كون الأصنام شفعاءهم عنده جل شأنه فإن ما لا يعلمه علام الغيوب المحيط علمه بالكليات والجزئيات لا يكون له تحقق بالكلية، وذكروا أن مثل ذلك لا يسمى شيئًا بناءً على أنه كما قال سيبويه ما يصح أن يعلم ويخبر عنه وهو يشمل الموجود والمعدوم كما حققه بعض أصحابنا كالمعتزلة وسموا ما لا يعلم بالمنفي كالشريك وكاجتماع الضدين، وحقق ذلك الشيخ إبراهيم الكورابي في رسالة مستقلة أتى فيها بالعجب العجاب، ويجوز أن يراد بالموصول أن له سبحانهش ريكًا والمقصود على الوجهين من ذكر إنباء الله تعالى بما لا تحقق له ولم يتعلق به علمه التهكم والهزء بهم وإلا فلا إنباء، وقوله سبحانه: {فِي السموات وَلاَ فِي الأرض} في موضع الحال من العائد المحذوف أي بما لا يعلمه كائنًا في ذلك، والمقصود منه تأكيد النفي المدلول عليه بما قبله فإنه قد جرى في العرف أن يقال عند تأكيد النفي للشيء ليس هذا في السماء ولا في الأرض لاعتقاد العامة أن كل ما يوجد إما في السماء وإما في الأرض كما هو رأى المتكلمين في كل ما سوى الله تعالى إذ هو سبحانه المعبود المنزه عن الحلول في المكان، والآيات التي ظاهرها ذلك من المتشابه والمذاهب فيه شهيرة، وهذا إذا أريد بالسماء والأرض جهتا العلو والسفل، وقيل: الكلام إلزامي لزعم المخاطبين الكافرين أن الأمر كذلك، وقيل: إن معنى الآية أتخبرونه تعالى بشريك أو شفيع لا يعلم شيئًا في السموات ولا في الأرض كما في قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مّنَ السموات والأرض} [النحل: 73] وليس بشيء {سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي عن إشراكهم المستلزم لتلك المقالة الباطلة أو عن شركائهم الذين يعتقدونهم شركاء، وقرئ {أَتُنَبّئُونَ} بالتخفيف، وقرأ حمزة. والكسائي {تُشْرِكُونَ} بتاء الخطاب على أنه من جملة القول المأمور به، وعلى الأول هو اعتراض تذييلي من جهته سبحانه وتعالى.

.تفسير الآية رقم (19):

{وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19)}
{وَمَا كَانَ الناس إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً} أي وما كان الناس كافة من أول الأمر إلا متفقين على الحق والتوحيد من غير اختلاف، وروي هذا عن ابن عباس. والسدي. ومجاهد. والجبائي. وأبي مسلم، ويؤيده قراءة ابن مسعود رضي الله تعالى عنه {وَمَا كَانَ الناس إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً على هُدًى} وذلك من عهد آدم عليه الصلاة والسلام إلى أن قتل قابيل هابيل، وقييل: إلى زمن إدريس عليه الصلاة والسلام، وقيل: إلى زمن نوح عليه الصلاة والسلام، وكانوا عشرة قرون، وقيل: كانوا كذلك في زمنه عليه الصلاة والسلام بعد أن لم يبق على الأرض من الكافرين ديار إلى أن ظهر بينهم الكفر، وقيل: من لدن إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلى أن أظهر عمرو بن لحى عبادة الأصنام وهو المروي عن عطاء، وعليه فالمراد من {الناس} العرب خاصة وهو الأنسب بإيراد الآية الكريمة إثر حكاية ما حكى منهم من الهنات وتنزيه ساحة الكبرياء عن ذلك.
{فاختلفوا} بأن كفر بعضهم وثبت الآخرون على ما هم عليه فخالف كل من الفريقين الآخر، والفاء للتعقيب وهي لا تنافي امتداد زمان الاتفاق إذ المراد بيان وقوع الاختلاف عقيب انصرام مدة الاتفاق لا عقيب حدوثه {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ} بتأخير القضاء بينهم أو العذاب الفاصل بينهم إلى يوم القيامة فإنه يوم الفصل والجزء {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} عاجلًا {فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} بأن ينزل عليهم آيات ملجئة إلى اتباع الحق ورفع الاختلاف أو بأن يهلك المبطل ويبقى المحق، وصيغة الاستقبال لحكاية الحال الماضية والدلالة على الاستمرار، ووجه ارتباط الآية بما قبلها أنها كالتأكيد لما أشار إليه من أن التوحيد هو الدين الحق حيث أفادت أنه ملة قديمة اجتمعت عليها الأمم قاطبة وأن الشرك وفروعه جهالات ابتدعها الغواة خلافًا للجمهور وشقًا لعصا الجماعة، وقيل: وجه ذلك أنه سبحانه بين فيما قبل فساد القوم بعبادة الأصنام وبين في هذه أن هذا المذهب ليس مذهبًا للعرب من أول الأمر بل كانوا على الدين الحق الخالي عن عبادة الأصنام وإنما حدثت فيهم عبادتها بتسويل الشياطين.
قيل: والغرض من ذلك أن العرب إذا علموا أن ما هم عليه اليوم لم يكن من قبل فيهم وإنما حدث بعد أن لم يكن لم يتعصبوا لنصرته ولم يتأذوا من تزييفه وإبطاله. وعن الكلبي أن معنى كونهم أمة واحدة اتفاقهم على الكفر وذلك في زمن إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وروى مثله عن الحسن إلا أنه قال: كانوا كذلك من لدن وفاة آدم إلى زمن نوح عليهما السلام ثم آمن من آمن وبقي من بقي على الكفر.
وفائدة إيراد هذا الكلام في هذا المقام تسليته صلى الله عليه وسلم كأنه قيل: لا تطمع في أن يصير كل من تدعوه إلى الإيمان والتوحيد مجيبًا لك قابلًا لدينك فإن الناس كلهم كانوا على الكفر وإنما حدث الإيمان في بعضهم بعد ذلك فكيف تطمع في اتفاق الكل عليه. واعترض بأنه يلزم على هذا خلو الأرض في عصر عن مؤمن بالله تعالى عارف به وقد قالوا: إن الأرض في كل وقت لا تخلو عن ذلك. وأجيب بأن عدم الخلو في حيز المنع فقد ورد في بعض الآثار أن الناس قبل يوم القيامة ليس فيهم من يقول الله الله، وعلى تقدير التسليم المراد بالاتفاق على الكفر اتفاق الأكثر.
والحق أن هذا القول في حد ذاته ضعيف فلا ينبغي التزام دفع ما يرد عليه، وأضعف منه بل لا يكاد يصح كون المراد أنهم كانوا أمة واحدة فاختلفوا بأن أحدث كل منهم ملة على حدة من ملل الكفر مخالفة لملة الآخر لأن الكلام ليس في ذلك الاختلاف إذ كل من الفريقين مبطل حينئذٍ فلا يتصوران يقضي بينهما بإبقاء المحق وإهلاك المبطل أو بإلجاء أحدهما إلى اتباع الحق ليرتفع الاختلاف كما لا يخفى هذا.
ومن باب الإشارة في الآيات: {الر} [يونس: 1] إشارة إلى الذات الذي هو أول الوجود و{ل} إشارة إلى العقل المسمى جبريل عليه السلام وهو أوسط الوجود الذي يستفيض من المبدأ ويفيض إلى المنتهى، و{ر} إشارة إلى الرحمة التي هي الذات المحمدية وهي في الحقيقة أول ووسط آخر لكن الاعتبارات مختلفة، وكأن ذلك قسم منه تعالى بالحقيقة المحمدية على أن ما تضمنته السورة أو القرآن من الآي آيات الكتاب المتقن وقيل: المعنى ما أشير إليه بهذه الأحرف أركان كتاب الكل ذي الحكمة أو المحكم ومعظم تفاصيله {الحكيم أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إلى رَجُلٍ مّنْهُمْ} أنكار لتعجبهم من سنة الله الجارية وهي الإيحاء إلى رجل، وكان ذلك لبعدهم عن مقامهم وعدم مناسبة حالهم لحاله ومنافاة ما جاء به لما اعتقدوه {أَنْ أَنذِرِ الناس} أي خوفهم من أن يشركوا بي شيئًا {وَبَشّرِ الذين ءامَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبّهِمْ} سابقة عظيمة وقربة ليس لأحد مثلها، وقيل: سابقة رحمة أودعها في محمد صلى الله عليه وسلم {قَالَ الكافرون} أي المحجوبون عن الله تعالى: {إِنَّ هَذَا} أي الكتاب الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم {لَسِحْرٌ مُّبِينٌ} [يونس: 2] لما رأوه خارجًا عن قدرهم واحتجبوا بالشيطنة عن الوقوف على حقيقة الحال قالوا ذلك {إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السموات والأرض *فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} أي أوقات مقدار كل يوم منها دورة الفلك الأعظم مرة واحدة كما نص عليه الشيخ الأكبر والستة عدد تام واختاره الله تعالى لما فيه من الأسرار {ثُمَّ استوى عَلَى العرش} أي الملك {يُدَبّرُ الامر} على وفق حكمته بيد قدرته، وقد يفسر العرش بقلب الكامل فالكلام إشارة إلى خلق الإنسان الذي انطوى فيه العالم بأسره {مَا مِن شَفِيعٍ} يشفع لأحد بدفع ما يضره أو جلب ما ينفعه {إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ} وهبة الاست، داد ثم بتوفيق الأسباب {ذلكم} الموصوف بهذه الصفات الجليلة {الله رَبُّكُمُ} الذي يريكم ويدبر أمركم فاعبدوه فخصوه بالعبادة واعرفوه بهذه الصفات ولا تعبدوا الشيطان ولا تحتجبوا عنه تعالى فتنسبوا قوله وفعله إلى الشيطان{أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} [يونس: 3] آياته التي خطها بيد قدرته في صحائف الآفاق والأنفس فتتفكروا فيها وتنزجروا عن الشرك به سبحانه: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا} بالعود إلى عين الجمع المطلق في القيامة الصغرى أو إلى عين جمع الذات بالفناء فيه تعالى عند القيامة الكبرى كذا قيل، وقال بعض العارفين: إن مرجع العاشقين جماله ومرجع العارفين جلاله ومرجع الموحدين كبرياؤه ومرجع الخائفين عظمته ومرجع المشتاقين وصاله ومرجع المحبين دنوه ومرجع أهل العناية ذاته، وقال الجنيد قدس سره في الآية: إنه تعالى منه الابتداء وإليه الانتهاء وما بين ذلك مرابع فضله وتواتر نعمه {وَعْدَ الله حَقّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ} أي يبدؤه في النشأة الأولى ثم يعيده في النشأة الثانية أو يبدأ الخلق باختفائه وإظهارهم ثم يعيده بإفنائهم وظهوره {لِيَجْزِىَ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات بالقسط} [يونس: 5] أي يفعل ذلك ليجزي المؤمن والكافر على حسب ما يقتضيه عمل كل، {هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَاء} أي جعل شمس الروح ضياء الوجود {والقمر} أي قمر القلب {نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ} أي مقامات {لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين} أي سني مراتبكم وأطواركم في المسير إليه وفيه تعالى: {والحساب} [يونس: 5] أي حساب درجاتكم ومواقع أقدامكم في كل مقام ومرتبة، ويقال: جعل شمس الذات ضياء للأرواح العارفة وجعل قمر الصفات نورًا للقلوب العاشقة ففنيت الأرواح بصولة الذات في عين الذات وبقيت القلوب شاهدة الصفات في عين الصفات وهذه الشمس المشار إليها لا تغيب أصلًا عن بصائر الأرواح ومن هنا قال قائلهم:
هي الشمس إلا أن للشمس غيبة ** وهذا الذي نعنيه ليس يغيب

{إِنَّ فِي اختلاف اليل} أي غلبة ظلمة النفس على القلب {والنهار} أي نهار إشراق ضوء الروح عليه {وَمَا خَلَقَ الله فِي السموات} أي سموات الأرواح {والأرض} أي أرض الأجساد {لآيات لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ} [يونس: 6] حجب صفات النفس الأمارة {إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} أي يوصلهم إلى الجنات الثلاث بحسب نور إيمانهم فقوله سبحانه: {تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الانهار فِي جنات النعيم} [يونس: 9] كالبيان لذلك {دَعْوَاهُمْ} الاستعدادي {فِيهَا} أي في تلك الجنات {سبحانك اللهم} إشارة إلى تنزيهه تعالى والتنزيه في الأولى عن الشرك في الأفعال بالبراءة عن حولهم وقوتهم وفي الثانية عن الشرك في الصفات بالانسلاخ عن صفاتهم وفي الثالثة عن الشرك في الوجود بفنائهم {وَتَحِيَّتُهُمْ} أي تحية بعضهم لبعض أو تحية لله تعالى: {فِيهَا سلام} أي إفاضة أنوار التزكية وإمداد التصفية أو إشراق أنوار التجليات وإمداد التجريد وإزالة الآفات {وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين} [يونس: 10] أي آخر ما يقتضيه استعدادهم قيامهم بالله تعالى في ظهور كمالاته وصفات جلاله وجماله عليهم وهو الحمد الحقيقي منه وله سبحانه: {وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا} أو استغرق أوقاته في الدعاء {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إلى ضُرّ مَّسَّهُ} [يونس: 12] هذا وصف الذين لم يدركوا حقائق العبودية في مشاهد الربوبية فإنهم إذا أظلم عليهم ليل البلاء قاموا إلى إيقاد مصباح التضرع فإذا انجلت عنهم الغياهب بسطوع أنوار فجر الفرج نسوا ما كانوا فيه ومروا كأن لم يدعوا مولاهم إلى كشف ما عناهم.
كأن الفتى لم يعر يومًا إذا اكتسى ** ولم يك صعلوكًا إذا ما تمولا

ولو كانوا عارفين لم يبرحوا دارة التضرع وإظهار العبودية بين يديه تعالى في كل حين {وَمَا كَانَ الناس إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً} على الفطرة التي فطر الله الناس عليها متوجهين إلى التوحيد متنورين بنور الهداية الأصلية {فاختلفوا} قتضيات النشأة واختلاف الأمزجة والأهوية والعادات والمخالطات {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ} وهو قضاؤه سبحانه الأزلي بتقدير الآجال والأرزاق {لَّقُضِىَ بِيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [يونس: 19] بإهلاك المبطل وإبقاء المحق، والمراد أن حكمة الله تعالى اقتضت أن يبلغ كل منهم وجهته التي ولى وجهه إليها بأعماله التي يزاولها هو وإظهار ما خفي في نفسه وسبحان الحكيم العليم.